فانتازيا مدهشة تصيب رأسك بالدوار وحكمتك بالعوار، فلا تملك إلا أن تمص شفتيك وتطأطئ رأسك في خجل لأنك مجرد مصري تلملم شتات حزنك كل ليلة في سلة بؤس واحدة في انتظار أي فرج “قريب”.
فمن جوف شاشة مسطحة يخرج أحمد السقا الملقب رمضانيا بعيسى في صورة امرأة منقبة تحمل سلاحا أبيض ومخدرا في زجاجة.
وفي مدينة طوخ بالقليوبية التي كانت شاهد عيان على مأساة إنسانية مروعة، يقف حامل الكاميرا راسما علامة دهشة كبيره فوق وجهه الممتلئ.
لكن مشهد معلمة طوخ ليس كمشهد معلم “ولد الغلابة”، وإن جمع بينهما تفاصيل بؤس تعد قاسما مشتركا لمُعَلّمَي أجيال خرجا عن سياق الفضيلة بفعل فاعل عن سبق إهمال وتجاهل.
ففي المسلسل، يضطر عيسى للعمل فترتين، إحداهما كمعلم لا يكاد راتبه يغطي سوأة بؤسه، والأخرى كسائق ليلي لرجل يدعى “ضاحي”، لينحرف تدريجيا عن مبادئه تحت وطأة الحرمان والتجاهل.
وفي الحقيقة، تخرج معلمة طوخ في ثياب تواري رعشتها، شاهرة سلاحها الأبيض ورذاذها المخدر في وجه مجتمع لم يجد الإنصات لمعاناتها يوما، لتفجر مكبوتات عقود أربعة من الكبت والحرمان في وجه عاملة صيدلية قريبة.
لكن معلمة رياض طوخ لم تكن تعلم أن أحمد السقا يذهب إلى موقع التصوير في سيارة فارهة محاطا بكوكبة من الأثرياء المترفين، وأنه وإن قبض عليه لن ينال ما ينتظرها حتما في سجن نساء طوخ حيث لا توجد كاميرا ولا مصورين.
من حق معلمي مصر أن ينتفضوا حين يرون ممثلهم الدرامي يهان على يدي ضابط شرطة فظ، لكن هل ترى من حقهم أن ينتفضوا دفاعا عن امرأة قالت أنها ذهبت إلى الصيدلية بعدما أغلقت سماوات الرحمة في وجهها، وأنها كانت تريد فقط شراء دواء لابنتها المريضة؟
هل يقف نقيب المعلمين مع “م.م.م” داخل قفص المهانة ليتلقى عنها صفعات الأكف الغليظة ونظرات الهازئين داخل قاعة المحكمة؟
ذات تاريخ درامي قريب، وقف نجيب الريحاني “الأستاذ حمام” موقفا مشابها، حين اتهمته ابنة الباشا التي يعلمها “أبجد هوز” بسرقة خاتمها، فيتكور بلور من ماء في عينيه الواسعتين ليخرج منديلا من قماش خشن يجفف به خجله.
وبعد تعاطف مؤقت من جماهير كانت تقدس الفن الأصيل، يعود “الأستاذ حمام” إلى “زغلول” أليف في حضرة فتاة تستخف بأقدس المشاعر الإنسانية وأنبلها.
سلسلة متقطعة من الإنهيارات القيمية تتبناها شاشة تدخل كل مخدع لتعبث بقيم مجتمع لم يعد يجد من يعلمه إلا رمضان مبروك أبو العلمين حموده، داخل مدرسة مشاغبين في منطق أشبه بمنطق مرسي الزناتي.
والنتيجة، تآكل غير مسبوق في منظومة القيم.
فحين تخرج امرأة حاملة سلاحها لتطلب قوت يومها أو دواء صغيرتها، فاعلم أن هناك خللا اجتماعيا كبيرا قد حدث، وأما أن تكون هذه المرأة مربية نشإ، فاعلم أننا قد وصلنا إلى الدرك الأسفل من الخطيئة.
والمدان، مجتمع كامل أقنع مدرسة طوخ بأن “السيف أصدق إنباء من الكتب” وأن السلاح الأبيض خير من القلم وأبقى.
عمن يتلقى صغارنا قيمهم أيها الواقفون عند حدود الوطن البعيدة تراقبون في صمت وكأن الأمر لا يعنيكم؟
وكيف يأمن المواطنون على صغارهم في مجتمع يدفع معلميه إلى اتخاذ السرقة بالإكراه والسطو المسلح طريقا؟
لطالما حذر أساتذة الاجتماع من خطورة المساس بصورة المعلم النمطية في أذهان الناس، وتكريس مبدأ السخرية منه كسبيل إلى الشهرة والكسب، فانهيار هذه الصورة في أذهان الصغار سيؤدي حتما إلى استخفافهم بما يتلقونه على أيدي المعلمين من قيم، مما سيؤدي حتما إلى استخفاف بالقيم ذاتها، ثم بمصادر تلك القيم، مما يهدد المجتمع بانهيار أخلاقي شامل.
ولطالما طالب المنصفون بتحسين أحوال المعلمين للقضاء على الآفات الأخلاقية التي استشرت في المجتمع في الآونة الأخيرة.
واليوم، يقطف المجتمع ثمرة حنظل أخرى من ثمرات الاستخفاف والتجاهل لحقوق المعلم، والتطاول المستمر على ذاته وصفاته.
لا أعرف حتى اللحظة تفاصيل حادثة طوخ، لكنني أعرف أن روح القانون مقدمة على عدالته، وأن أحكام الرمادة تتجاوز أحيانا سلطة التشريع والمقدس، فدماء المسلمين وأعراضهم أقدس عند الله من أستار الكعبة.
وما أوقف عمر حد السرقة في عام المجاعة إلا لإدراكه أن الله سائله عما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، ولهذا تراه يقول في ثقة ملهمة: “ما كنت قاطع الناس حتى أشبعهم.
” لهذا أطالب الجميع وعلى رأسهم سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بإطلاق سراح معلمة طوخ إن ثبت صدق دعواها، والتدخل المباشر لرفع المعاناة عن كاهل ورثة الأنبياء حفاظا على ما تبقى من قيم.
وأناشد المواطنين الذين لا يرقبون في فقير إلا ولا ذمة أن يتقوا الله، فإن كان منهم رجل بلا خطيئة فليلق معلمة طوخ بحجر.